هل أعددت العدة للرحيل ؟
إن مثلي ومثلك في هذه الحياة الدنيا كمثل قوم كانوا في سفر ..
قد كلوا وملوا من طول هذا السفر , فأراداوا أن يستوطنوا , فوجدوا
لهم جزيرة بعد طول عناء وترادف شقاء.
فظلوا فيها ما شاء الله أن يظلوا , أنزلوا عن ظهورهم رواحل التعب ,
وخلعوا عن أجسادهم ظواهر النصب , ولكن كثرت بينهم الفتن , وذلك
لأنه ليس لهم أمير يأتمرون بأمره وينتهون مذعنين عند نهيه ,
فيكون للخير دليلا وللسعادة سبيلا .
فاجتمع أمرهم على أن يتعين منهم أمير يتولى أمرهم , ويحكم
بينهم ,ويرعى مصالحهم , ويقوم على شؤونهم ، ومن أهم الشروط
التي يلزم العمل بها أن يظل في الأمارة خمس سنوات , ثم لابد له من
أن ينقل في قارب صغير إلى جزيرة ثانية مشهورة معلومة بكثرة
الهوام والسباع والضباع . فالداخل فيها مفقود والخارج منها مولود...
فتولى أمرهم أمير ظل فيهم وعليهم خمس سنوات أكل آخرها
أولها , فتلاشت من بين يديه وانطوت من تحت قدميه ، وانتهت
هذه السنوات وحسب الاتفاق الذي أبرموه فيما بينهم لابد أن
ينقل إلى تلك الجزيرة ( جزيرة المهالك ) وكذلك فعلوا ...وجاء
أمير ثان .... وثالث ... فهاب الناس هذا الأمر وارتاعوا منه.. ثم
أحجموا عنه.. ولم يقدم عليه أحد .يقول أحدهم لنفسه: أجزاء
تمتعي بالولاية خمس سنوات ما أسرع ما تنقضي وأعجل
ما تنتهي .. أنقل إلى تلك الجزيرة المسكونة بالمهالك بعيدا
عن أهليومالي وكل مكتسباتي ومدخراتي لايعلم فيها حالي
ولامالي ..؟ فتركت الولاية .. وعادت الغواية.. ورجع الناس
يعانون من فقد الأمير , لما يرون من ظلم واقع ليس له من
دافع , وجرم نازل ماله من منازل , وفوضى عارمة وبلوى
جاثمة ... فمر بهم رجل عليه سيماء الخير وملامح الصلاح ,
فدل مظهره على مخبره فعرضوا عليه أمرهم وأخبروه بحالهم ..
فقال: أنا لها بإذن الله ..فتولى الولاية عليهم خمس سنوات
ما رأى الناس مثلها ولا عاشوا كصفوها في خيرها وعدلها ..
وانتهت هذه السنوات كعقد انحل وثاقه فانفرطت حباته , وأزف
التحويل ..فلم يبق سوى الرحيل .. وجاء اليوم الموعود .. بكل
الامه وأحزانه كعاصفة هوجاء قطعت كل أمل ورجاء في
الخلود والبقاء .. وأتت اللحظة الحاسمة لتشعل في القلب أحزان
الفراق وتطوي صحائف اللقيا ونعيم التلاق .. ودنت ساعة الصفر ..
التي تتغير فيها الموازين .. وتنخلع من هولها القلوب .. وتذرف
من حرقتها العيون .. وجيىء بهذا الأمير ليركب القارب الذي
سينقله إلى جزيرة المهالك , ليواجه الأهوال وحده , ويقارع
الخطوب بمفرده , حيث لا معين ولا جليس ولا مغيث ولا أنيس
وبينما كان الناس اسفين محزونين .. دموعهم تهراق حزنا
على فراقه , وقلوبهم تتقطع ألما لفقده وبعاده , إذا به في
بهجة وسرور وفرحة وحبور . فقالوا : عجبنا منك ومن حالك
نحن قلوبنا ألم بها الألم , ومسها السقم , حزنا عليك وحبا فيك
وألما لفراقك .. وانت في سعادة غامرة وفرحة ظاهرة ..
قال : اسمعوا مني الخبر .. وافهموا مني الحكاية ..
أما إني علمت أني راحل عن هذه الجزيرة مفارق لها ومسافر
عنها , مهما طال بي فيها المقام فأعددت العدة لهذا الرحيل
وجهزت الزاد لهذا السفر الطويل ..في السنة الأولى أرسلت
جزءا من غلماني إلى تلك الجزيرة فقتلوا ما فيها من سباع
وضباع ..وفي السنة الثانية بعثت جمعا من غلماني إلى تلك
الجزيرة فأهلكوا ما فيها من مهلكات وأفنوا ما يكتنفها من
افات وأزالوا ما فيها من هوام وحشرات .. وفي السنة الثالثة
أرسلت حشدا من غلماني فأعدوا لي فيها القصور والدور ..
وفي السنة الرابعة وجهت فرقة من غلماني فأعدوا لي فيها
المطايب والمشارب والمركب .. وها أنا أنتقل في السنة
الخامسة لا كمن سبقني .. ينتقلون من العمار
إلى الخراب .. أنا أنتقل من العمار ... إلى العمار ..
~~~~~~~~~~~~
ترى من منا سيفعل مثل هذا الأمير ويعد العدة للرحيل ؟