دون تنظير كثير.. يبدو السؤال الأهم عند المُسلم الذي يهدف إلى معرفة دوره في الحياة يتمثل في (ماذا يُريد الله من المُسلم في الحياة الدُّنيا؟)..
وهو سؤال له على المُستوى البشري العام امتدادات فلسفية عميقة تدور حول (غائية الوجود) وطبيعة الحياة البشريّة.. لكن المُسلم الذي يحتكم إلى
لنص (القرآن والسنة) يبحث فيه عن تلك الغائية وعن هذا الهدف.
وإذا كان قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) هو أحد أهم النصوص الواضحة في الدلالة على هذا المعنى، باعتبار أن العبادة هي (اسم
جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة).. وإذا كان ثمة اتفاق في طبيعة الأعمال والأقوال الشعائريّة والقلبيّة (كالصلاة
والصوم والذكر وتطهير القلب وتزكية النفس...الخ).. ففي الجهة المُقابلة ثمة شيء من التباين والاختلاف في تحديد طبيعة الأعمال العِباديّة المُتعدّية
(طبيعتها، حدودها، وأولويات المرحلة، وظروف الواقع).
نعود للسؤال الرئيس.. ماذا يريد الخالق سبحانه وتعالى من المُسلم في الدنيا في إطار الأعمال والأقوال المُتعدية، لا الفردية الشعائرية؟
أعتقد أن أي استقراءٍ متأنٍ للنصوص الشرعية سيوصلنا إلى ضرورة أن يكون العمل العِبادي للمسلم في الدنيا (أفراداً ودولاً وتيارات) باتجاهين رئيسين
اثنين:
أولهما: حماية الدين، والسعي لتعلّمه ونشره.. وثمة نصوص كثيرة في هذا السياق.. ولكونها منطقة فيها كثير من الوضوح والاتفاق، لا حاجة لإيراد
الشواهد عليها.
وثانيهما: خدمة الإنسان، واحترامه ("الأخلاق" باعتبارها مُرتبطة بنمط العلاقات الإنسانية مع الآخرين)، وتحسين ظروفه الحياتية والمعيشية، وإقامة
العدل في الأرض.ـ وثمة أيضاً عشرات النصوص الشرعية في هذا المجال:
ـ
ففي مجال السعي لخدمة الآخرين وتحسين ظروفهم:
نُشير كمثالٍ إلى حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (من مشى في حاجة أخيه وبلغ منها، كان خيراً من اعتكاف عشر
سنين).
وكذا الحديث الذي رواه البخاري عن أنس أن رسول الله قال (ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته).
وكقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أورده الألباني في السلسلة الصحيحة عن ابن عمر (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب
الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب
إليّ من أن اعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهراً (...) ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول
الأقدام.).
ـ وفي مجال تعزيز الأخلاق وحُسن التعامل مع الآخرين:
قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو هريرة وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة: (إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وقد أعظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جريرة مُنتهك الأخلاق وسماه (مُفلساً)، حتى وإن كان كثير صلاة وصيام، فقال في الحديث الذي
رواه أبو هريرة وأورده مسلم في صحيحه (أتدرون ما المُفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي، يأتي يوم ا
لقيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته.
فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه. ثم طُرح في النار).
ـ وفي مجال إقامة العدل والقِسط ونصرة المظلوم:
نشير إلى قوله تعالى حين جعل إقامة العدل والقسط مدار الرسالات السماوية:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
وساوى الله عزوجل بين (الكفر وقتل الأنبياء) و (قتل الذين يأمرون بالقسط):
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وجعل أفضل الجهاد ـ أي أفضل من جهاد نشر الدين وحماية الأرض ـ هو قول كلمة الحق والعدل عند سلطانٍ جائر:
وذلك في الحديث الذي رواه النسائي وأبو داود والترمذي من عدة طرق عن الرسول عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حقٍ عند سلطان جائر).
فإذا اتفقت أطياف الإسلاميين على أصلٍ مفاده أن الشريعة الإلهية تطلب من المسلم أن يسعى في الدنيا لتحقيق هذين الأمرين (نشر الدين
وحمايته/ وخدمة الناس وتحقيق العدالة)، فعلينا حينئذٍ أن نختبر وندرس كل الطرق، والمسارات، وأنماط النشاط والعمل والإنتاج التي يتباين فيها
الإسلاميون بمختلف تياراتهم، وأن نبحث عن إجابة لسؤال مفاده:
لماذا يختلف الإسلاميون في سعيهم لتحقيق هاتين الغايتين؟
و
أيهم ألصق وأقرب لتطبيق نصوص الشريعة ومقاصدها الكبرى؟