والواضح
من جملة الأحاديث الواردة أنها في العشر الأواخر، لما صح عن عائشة قالت: كان رسول الله يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: " تحروا ليلة القدرفي العشر الأواخر من رمضان "، (متفق عليه، ). وعن
أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج إليهم صبيحة عشرين فخطبهم، وقال: "إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها - أو نسيتها - فالتمسوها في العشر الأواخر، في الوتر" (متفق عليه، ). وفي رواية: "ابتغوها في كل وتر " ومعنى (يجاور): أي يعتكف في المسجد، والمراد بالوتر في الحديث:
الليالي الوترية، أي الفردية، مثل ليالي: 21، 23، 25، 27، 29.
وإذا
كان دخول رمضان يختلف - كما نشاهد اليوم - من بلد لآخر، فالليالي الوترية في بعض الأقطار تكون زوجية في أقطار أُخرى، فالاحتياط التماس ليلة القدر
في جميع ليالي العشر. ويتأكد التماسها وطلبها في الليالي السبع الأخيرة من رمضان
فعن ابن عمر: أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت (أي توافقت) في السبع الأواخر، فمن كان متحريها، فليتحرها في السبع الأواخر" (متفق عليه). وعن ابن عمر أيضًا: "التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يُغلبن على السبع البواقي" (رواه أحمد ومسلم ). والسبع الأواخر تبدأ من ليلة 23 إن كان الشهر 29 ومن ليلة 24 إن كان الشهر 30 يومًا.
ورأي
أبي بن كعب وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان وكان أُبَىّ يحلف على ذلك لعلامات رآها، واشتهر ذلك لدى جمهور
المسلمين حتى غدا يحتفل بهذه الليلة احتفالاً رسميًا. والصحيح: أن لا يقين في ذلك، وقد تعددت الأقوال في تحديدها .
وأرجحها
كلها: أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يفهم من أحاديث هذا الباب وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى
وعشرين، وعند الجمهور ليلة سبع وعشرين . ولله
حكمة بالغة في إخفائها عنا، فلو تيقنا أي ليلة هي لتراخت العزائم طوال رمضان واكتفت بإحياء تلك الليلة، فكان إخفاؤها حافزًا للعمل في الشهر كله،
ومضاعفته في العشر الأواخر منه، وفي هذا خير كثير للفرد وللجماعة.
وهذا كما أخفى الله تعالى عنا ساعة الإجابة في يوم الجمعة، لندعوه في اليوم كله
وأخفى اسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب؛ لندعوه بأسمائه الحسنى جميعًا.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدرفتلاحى رجلان من المسلمين (أي تنازعا وتخاصما)
فقال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت (أي من قلبي فنسيت تعيينها) وعسى أن يكون خيرًا لكم".علامات ليلة القدر وقد ورد لليلة القدر علامات، أكثرها لا يظهر إلا بعد أن تمضى
مثل: أن تظهر الشمس صبيحتها لا شعاع لها، أو حمراء ضعيفة......إلخ.
ومثل: أنها ليلة مطر وريح، أو أنها ليلة طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة، إلخ ما ذكره الحافظ في الفتح.
وكل
هذه العلامات لا تعطي يقينًا بها، ولا يمكن أن تَطَّرد، لأن ليلة القدر في بلاد مختلفة في مناخها وفي فصول مختلفة أيضًا، وقد يوجد في بلاد المسلمين
بلد لا ينقطع عنه المطر وآخر يصلي أهله صلاة الاستسقاء مما يعاني من
المَحْل، وتختلف البلاد في الحرارة والبرودة وظهور الشمس وغيابها، وقوة
شعاعها، وضعفه، فهيهات أن تتفق العلامات في كل أقطار الدنيا. ومما
بحثه العلماء هنا: هل تعتبر ليلة القدر ليلة خاصة لبعض الناس، تظهر له وحده بعلامة يراها، أو رؤيا في منام أو كرامة خارقة للعادة، تقع له دون
غيره؟ أم هي ليلة عامة لجميع المسلمين بحيث يحصل الثواب المرتب عليها لمن
اتفق له أنه أقامها، وإن لم يظهر له شيء؟. لقد ذهب جمع من العلماء إلى الاعتبار الأول، مستدلين
بحديث أبي هريرة: "من يقم ليلة القدر فيوافقها.." (رواية لمسلم عن أبي هريرة).
وبحديث عائشة: أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟.
فقال: "قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عني" (رواه ابن ماجه والترمذي عن عائشة). وفسَّروا الموافقة بالعلم بها، وأن هذا شرط في حصول الثواب المخصوص بها.
ورجح
آخرون معنى يوافقها: أي في نفس الأمر، إن لم يعلم هو ذلك، لأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء، ولا سماعه، كما قال الإمام الطبري بحق.
وكلام بعض العلماء في اشتراط العلم بليلة القدر كان هو السبب فيما يعتقده كثير من عامة المسلمين
أن ليلة القدر طاقة من النور تُفتح لبعض الناس من السعداء دون غيرهم. ولهذا يقول الناس: إن فلانا انفتحت له ليلة القدر، وكل هذا مما لا يقوم عليه دليل صريح من الشرع.
فليلة القدر ليلة عامة لجميع من يطلبها، ويبتغي خيرها وأجرها، وما عند الله فيها .
وهي ليلة عبادة وطاعة، وصلاة، وتلاوة، وذكر ودعاء وصدقة وصلة وعمل للصالحات، وفعل للخيرات.
وأدنى ما ينبغي للمسلم أن يحرص عليه في تلك الليلة:
أن يصلي العشاء في جماعة، والصبح في جماعة، فهما بمثابة قيام الليل.
ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم" "من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل .
ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله" (رواه أحمد ومسلم ).
والمراد: من صلى الصبح بالإضافة إلى صلاة العشاء، كما صرحت بذلك رواية أبي داود والترمذي:
"من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة" .
والله أعلم .
اللهم بلغنا جميعاً ليلة القدر
لكم تحياتي
رمضان كريم
ودمتم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]